في قلب ولاية سليانة، وتحديدًا في أريافها التي طالما ظلت بعيدة عن الأضواء الثقافية، يعود مهرجان “Circuit Théâtre” في دورته الخامسة، من 7 إلى 10 أكتوبر 2025، حاملاً معه رؤية فنية وإنسانية تتجاوز حدود العرض المسرحي التقليدي لتلامس جوهر المواطنة والانتماء.
هذا المهرجان، الذي يشرف على تنظيمه مركز الفنون الدرامية والركحية بسليانة، بدعم من وزارة الشؤون الثقافية، يُعد تتويجًا لمسار متواصل من العمل اللامركزي الذي يتبناه المركز منذ تأسيسه. وهو مسار يقوم على نقل الفعل الثقافي من مركز المدينة إلى الأرياف، ومن القاعات المغلقة إلى الفضاءات المفتوحة، ليشمل بذلك الأطفال والمربين وسكان المناطق المهمّشة، ويعيد لهم حقهم في التفاعل مع الفن والمعرفة.
المدرسة والطفل في صميم الرؤية الثقافية
تُخصص هذه الدورة من المهرجان حيزًا هامًا للمدرسة والطفل، باعتبارهما نواتين أساسيتين في بناء المستقبل. فالمدرسة، بحسب ما يؤكده القائمون على المهرجان، ليست مجرد فضاء تعليمي، بل هي ذاكرة جماعية أنتجت نساءً ورجالًا ساهموا في بناء تونس. أما الطفل، فهو رجل الغد، ورأسمال الوطن الحقيقي.
من هذا المنطلق، يتوجه المهرجان إلى تلاميذ المدارس في مناطق مثل بورويس، الكريب، قعفور، والعروسة، عبر عروض مسرحية وتربصات ولقاءات أدبية وفنية، تهدف إلى غرس قيم الجمال والخيال والتفكير النقدي في نفوس الناشئة، وتوفير بدائل تربوية مبدعة للبرامج المدرسية التقليدية.
منظور جمالي جديد للمسرح
يتبنى مهرجان “Circuit Théâtre” طرحًا جماليًا يسعى إلى كسر النمط السائد في العرض المسرحي، من خلال التجريب وتوظيف أدوات جديدة تتلاءم مع الفضاءات غير التقليدية. فهو يرفض الانغلاق داخل القوالب الجاهزة، ويتحدى محدودية “العلبة الإيطالية” من خلال عروض تنبض بالحياة وتندمج مع محيطها الطبيعي أو المعماري، سواء أكان مدرسة، مصنعًا، سجنًا، مستشفى، أو حتى ساحة عامة.
كما أن المهرجان يطرح أسئلة جوهرية حول دور الفنان في المجتمع، ويبحث عن فنان مثقف، موسوعي، أخلاقي، وجميل، قادر على التأثير والتغيير، لا مجرد مؤدٍّ فوق الخشبة.
برنامج غني وشراكات متنوعة
يتضمن برنامج الدورة الخامسة عروضًا مسرحية مختارة بعناية، من توقيع مخرجين تونسيين متمرّسين في مسرح الطفل، إضافة إلى عروض موسيقية ذات طابع تعليمي واحتفالي. كما ستُقام ورشات تربوية وتكوينية لفائدة الأطفال والمربين، يشرف عليها مختصون في المسرح والتربية، بهدف تعزيز التفاعل الإبداعي داخل المدرسة.
من جهة أخرى، يتضمن البرنامج لقاءات أدبية بعنوان “Je suis écrivain”، يلتقي خلالها التلاميذ مع كتّاب مختصين في أدب الطفل، للتعريف بإنتاجاتهم وتحفيز الأطفال على القراءة والكتابة.
ويُنجز المهرجان أيضًا ندوة فكرية حول “واقع مسرح الطفل في تونس”، يشارك فيها باحثون وفنانون، على أن يتم توثيق مخرجاتها في كتاب سيكون الأول من نوعه يصدر عن المركز.
في جانب آخر، يعتمد المهرجان على شبكة قوية من الشراكات المحلية التي تشمل المندوبيات الجهوية للثقافة والتربية والأسرة والطفولة، إضافة إلى دور الثقافة والمكتبات العمومية والمكتبة المتنقلة، ما يعزز البعد التشاركي والتكامل بين مختلف الفاعلين في الحقل الثقافي.
ثقافة تنمو من الداخل
مهرجان “Circuit Théâtre” ليس مجرد تظاهرة عابرة، بل هو مشروع ثقافي متكامل يسعى إلى تحويل الفضاءات الريفية إلى مراكز فعل وإبداع. وهو نموذج يحتذى به في العمل الثقافي الجهوي الذي يرفض المركزية، ويؤمن بأن الثقافة الحقيقية تنبع من الداخل، من تفاصيل الحياة اليومية، من المدرسة، ومن الطفل الذي يحتاج إلى من يوقظ فيه الحلم لا أن يملأه بالمعلومة فقط.